القائمة
مفهوم الثقافة في العلوم الاجتماعية

مفهوم الثقافة في العلوم الاجتماعية

يعتبر مفهوم الثقافة ملازما للعلوم الاجتماعية، وهو ضروريّ لها إلى حدّ ما، للتفكير حول وحدة ‏البشرية من خلال التنوّع، بشكل يختلف عن التفكير المستند إلى البيولوجيا. ويبدو أن هذا المفهوم يقدّم ‏أكثر الأجوبة إقناعا على عن سؤال الفارق بين الشعوب، وذلك لأن الجواب «العرقي» أخذ يفقد من ‏قيمته شيئا فشيئا مع تطور علم الوراثة البشري.‏
الإنسان بالأساس كائنٌ ثقافي. وعملية التحول الطويلة إلى إنسان التي بدأت قبل عشرة ملايين سنة، ‏انطوت في جوهرها على الانتقال من التكيّف الوراثي مع البيئة الطبيعية إلى التكيّف الثقافي. وعبر مسيرة ‏ذلك التطور الذي أدى إلى نشوء الإنسان العاقل أي الإنسان الأول، تراجعت الغرائز تراجعا كبيرا، ‏وحلّت الثقافة تدريجيا محلّها وهو التكيّف الذي تمكّن الإنسان من السيطرة عليه. وقد تبيّن أن هذا التكيّف ‏أكثر فاعلية من التكيّف الوراثي لأنه أكثر مرونة وأسهل وأسرع قابلية للانتقال. والثقافة لا تتيح للإنسان ‏لا التكيّف مع بيئته فحسب، بل تتيح له أيضا إمكانية تكييف هذه البيئة لحاجاته ومشروعاته، بمعنى آخر، ‏الثقافة تجعل تغيير الطبيعة أمرا ممكنا.‏
وحتى لو امتلك كلّ البشر المخزون الوراثي نفسه، لكنهم فإنهم يختلفون عن بعضهم عن بعض في ‏خياراتهم الثقافية، حيث إذ يتمكن كلّ شعب من إيجاد الحلول الملائمة. ولكن، يمكن ردّ هذه الاختلافات ‏إلى بعضها إلى بعض لأنها تمثّل تطبيقا للمبادئ الثقافية الشاملة نظرا للوحدة الثقافية التي تجمع البشرية، ‏على اعتبار أن هذه التطبيقات عرضة للتطور بل وللتغيّر.‏
وبالتالي يبدو أن مفهوم الثقافة يعدّ أداة مناسبة لوضع حدّ للتفسيرات الطبيعية للتصرّفات ‏البشرية. وطبيعة الإنسان يمكن تفسيرها كلّها من خلال الثقافة. والاختلافات التي تبدو شديدة الارتباط ‏بالخصائص البيولوجية الخاصة مثل اختلاف الأجناس، على سبيل المثال، لا يمكن ملاحظتها أبدا بتاتا في ‏حدّ ذاتها، «في الحالة الأصلية» (الطبيعية)، لأن الثقافة تستولي عليها مباشرة: التقسيم الجنسي للأدوار ‏وللمهامّ في المجتمعات البشرية ينتج أساسا عن الثقافة، ولهذا نراها تتنوع من مجتمع إلى آخر.‏
الإنسان لا يملك أيّ شيء طبيعي خالص. حتى الوظائف البشرية المرتبطة بالحاجات الفيزيولوجية ‏كالجوع والنوم والرغبة الجنسية وما إلى ذلك، تمليها الثقافة: المجتمعات لا تقدّم تماما الأجوبة نفسها ‏بالضبط، على تلك الحاجات. وفي المجالات التي تخلو من الإكراه البيولوجي تقوم الثقافة بتوجيه السلوك. ‏لذا فإن الأمر: «كن طبيعيّا!»، وهو أمرٌ نوجهه غالبا للأطفال في الأوساط البورجوازية على وجه ‏الخصوص، يعني في الواقع: «كن متوافقا مع نموذج الثقافة التي نقلت إليك!».‏
إذا أدركنا مفهوم الثقافة بمعناها الواسع على أنه الذي يحيل إلى أساليب الحياة والفكر، فإنه اليوم ‏مفهوم مقبول بشكل واسع، حتى لو انطوى هذا الفهم على شيء من الغموض. لكن الأمر لم يكن دائما ‏كذلك. فمنذ أن برزت الفكرة الحديثة للثقافة في القرن الثامن عشر أثارت مناقشات حادّة. ومهما كان ‏المعنى الدقيق الذي أمكن خلعه على هذه الكلمة - وما أكثر تعريفات الثقافة!- فقد بقيت هناك ‏اختلافات حول تطبيقها على هذا الواقع أو ذاك. لأن استخدام مفهوم الثقافة يدخلنا مباشرة في النظام ‏الرمزي وفي ما يتعلّق بالمعنى، أي في أصعب ما يمكننا الاتفاق عليه.‏

تاريخ الإصدار: 2025

الناشر: دار نينوى للدراسات والنشر والتوزيع

المؤلف: دوني كوش

عدد الصفحات: 228

تطبيق ألف كتاب وكتاب

حمل التطبيق الآن واستمتع بقراءة كتبك المفضلة في أي وقت وأي مكان