القائمة
المحارب القديم

المحارب القديم

مذكّرات مُحارِب من بِلَاد زعير

"وكأنّ ليلًا ثقيلًا مطبقًا نزل فجأة. غيمة غبار ودخان تلفّني، تحول بيني وبين الأشياء. يضيع سمعي في جبّ عميق. لا صوت، لا همس، غير طنين مسترسل فظيع. هل ما زلت واقفًا على قدميّ، أم تراني جثوت على ركبتيّ، أم أنّي منبطح على الأرض؟ لا يصلني عبر حوّاسي شيء. لا أشعر بجسدي. ذاكرتي تطفو على سطح اللحظة، تظلّ تتمدّد هناك. بينما الزمن كأنّه كفّ عن التقدّم إلى الأمام. يدور بي في دوامة من عدم. أترقّب في الفراغ ومضة ضوء أو طرقًا على باب، هبّة ريح أو نسمة هواء، أن أحسّ بشيء، أن تنتشلني يد إلى الخارج.
لوهلة، تنسلّ الذاكرة، تقفز خارج دوامة الزمن المتوقّف، وترجع بشيء كوميض برق شقّ السماء عند الأفق، فأضاء وجه الأرض الغارق في ليل حالك. أتذكّر أنّي لم أكن لوحدي، أين الآخرون؟ أصواتهم، صيحاتهم؟ أين اندثر صوت الرصاص، وأزيز المدافع؟ بل أين أنا؟ هل أنا حقًّا في جحيم معركة؟ أم طريح الفراش؟ مريض؟ مصاب؟ أم أنّي في كابوس جهنّمي لعين؟ أين خيط الحقيقة الرفيع لألمسه؟
تتراجع حدّة الطنين، فتبدأ أصوات كثيرة، متداخلة، متناثرة، متنافرة، في بلوغ أذنيّ. ويخفّ سواد غيمة السديم التي تلفّني، نحو لون رماديّ غامق تخترقه بقع سود وبنفسجيّة. شيئًا فشيئًا أشعر بجسدي. أوّلًا شعرت بفكّيّ مطبقين على بعضيهما بقوّة، ثمّ شعرت بالأرض تلامس بطني، تلامس قدميّ، وشعرت بثقل الخوذة على رأسي، وبحزامها يشدّ على ذقني. ثم اكتشفت أنّي متّكئ على مرفقيّ، وأنّ يديّ تحملان رشاشًا مصوّبًا إلى الأمام. وبينما راح شمّي يميّز روائح بارود محترق وغبار ودخان أرض تستعر، استوعبت أخيرًا أنّي متواجد داخل خندق، فعادت ذاكرتي تسرد أمامي تفاصيل اللحظات الأخيرة: قنبلة يدوية سقطت داخل الخندق.
يصلني الآن صوت فظيع، صراخ أحدهم نالت منه القنبلة إلى جواري. أرفع رأسي قليلًا. أنظر إلى الأمام، فلا أرى غير الغبار والدخان، عاصفة من الرصاص تصطدم بأكياس الرمل، ثمّ قذائف من راجمات العدو التقليدية تتساقط في الخنادق المجاورة، مزيد من الصراخ. النقيب الفرنسي، لوبورجوا، قائد سريّتنا، يصدر أوامره بمغادرة الخنادق والتقدم إلى الأمام. يتلكّأ معظم الجنود. والصراخ يصير أنينًا مسترسلًا. الرصاص يجيء من كلّ صوب. تحدث بلبلة في صفوفنا، أصوات متداخلة واستجداء يصدر عن كلّ الحفر والخنادق. تبدأ مدفعيّتنا في القصف. قنابلها تتساقط في كلّ مكان. الآن تصير احتمالية إصابتنا أكبر. هل أقف وأتقدّم، أم أتريّث وأواصل رمي الرصاص حتّى وإن كنت لا أستبين الأهداف؟ أعي الآن جيّدًا أنّ الموت متربّص بنا في كلّ مكان. داخل الخنادق وخارجها. تنتابني رغبة شديدة في البكاء، وجهي إلى التراب، أحسّ بطعمه اللزج على لساني. أعلم أنّ عليّ رفع رأسي إن أردت استطلاع الأمام، والرصاص يستمرّ في الطرق على جدار الرمل، سيكون التفكير فقط في فعل ذلك نوعًا من الجنون.
يبدأ بعض الجنود بالخروج من الخنادق والتقدّم إلى الأمام. يفعلون ذلك زحفًا على البطون. من كان إلى جواري بنفس الخندق؟ النحيلة واعزيز وخمسة أو ستة جنود آخرين؟"

تاريخ الإصدار: 2025

الناشر: دار ملهمون للنشر والتوزيع

المؤلف: توفيق باميدا

تطبيق ألف كتاب وكتاب

حمل التطبيق الآن واستمتع بقراءة كتبك المفضلة في أي وقت وأي مكان